سورة الرعد - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


قال ابن عباس: نزلت أفمن يعلم في حمزة وأبي جهل. وقيل: في عمر بن الخطاب وأبي جهل. وقيل: في عمار بن ياسر وأبي جهل. قرأ زيد بن علي: أو من بالواو بدل الفاء، إنما أنزل مبنياً للفاعل. ولما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر، وذكر ما للمؤمن من الثواب، وما للكافر من العقاب، ذكر استبعاد من يجعلها سواء وأنكر ذلك فقال: أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى أي: ليسا مشتبهين، لأنّ العالم بالشيء بصير به، والجاهل به كالأعمى، والمراد أعمى البصيرة ولذلك قابله بالعلم. والهمزة للاستفهام المراد به: إنكار أن تقع شبهة بعدما ضرب من المثل في أن حال من علم إنما أنزل إليك من ربك الحق فاستجاب، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب، كبعد ما بين الزبد والماء، والخبث والإبريز. ثم ذكر أنه لا يتذكر بالموعظة، وضرب الأمثال إلا أصحاب العقول. والفاء للعطف، وقدمت همزة الاستفهام لأنه صدر الكلام والتقدير: فأمن يعلم، ويبعدها أن يكون فعل محذوف بين الهمزة والفاء عاطفة ما بعدها على ذلك الفعل، كما قدره الزمخشري في قوله: {أفلم يسيروا} وقوله: {أفلا يعقلون} وجوزوا في الذين أنْ يكون بدلاً من أولوا، أو صفة له، وصفة لمن من قوله: أفمن يعلم وإنما يتذكر اعتراض، ومبتدأ خبره أولئك لهم عقبى الدار كقوله: {والذين ينقضون عهد الله} ثم قال: {أولئك لهم اللعنة} والظاهر عموم العهد. وقيل: هو خاص، فقال السدي: ما عهد إليهم في القرآن. وقال قتادة: في الأزل، وهو قوله: {ألست بربكم قالوا بلى} وقال القفال: ما في حيلتهم وعقولهم من دلائل التوحيد والنبوات. وقيل: في الكتب المتقدمة والقرآن. وقيل: المأخوذ على ألسنة الرسل. وقيل: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والظاهر إضافة العهد إلى الفاعل أي: بما عهد الله. والظاهر أن قوله: ولا ينقضون الميثاق، جملة توكيدية لقوله: يوفون بعهد الله، لأن العهد هو الميثاق، ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقيضه. وقال الزمخشري: وعهد الله ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى. ولا ينقضون الميثاق، ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله تعالى، وغيره من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبين العباد تعميم بعد تخصيص انتهى. فأضاف العهد إلى المفعول، وغاير بين الجملتين بكون الثانية تعميماً بعد تخصيص انتهى. إذ أخذ الميثاق عام بينهم وبين الله وبين العباد. وقال ابن عطية: بعهد الله اسم الجنس أي: بجميع عهود الله، وبين أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده. ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض، وتجنب جميع المعاصي. وقوله: ولا ينقضون الميثاق.
أي: إذا اعتقدوا في طاعة الله عهداً لم ينقضوه. قال قتادة: وتقدم وعيد الله إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية، ويحتمل أنه يشير إلى ميثاق معين وهو الذي أخذه تعالى على ظهر أبيهم آدم عليه السلام انتهى.
وقال ابن العربي: من أعظم المواثيق في الذكر أن لا يسأل سواه، وذكر قصة أبي حمزة الخراساني وقوعه في البئر، ومرور الناس عليه، وتغطيتهم البئر وهو لا يسألهم أن يخرجوه، إلى أن جاء من أخرجه بغير سؤال، ولم ير من أخرجه، وهتف به هاتف: كيف رأيت ثمرة التوكل؟ قال ابن العربي: هذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام، فاقتدوا به. وقد أنكر أبو الفرج بن الجوزي فعل أبي حمزة هذا وبين خطأه، وأن التوكل لا ينافي الاستغاثة في تلك الحال. وذكر أنّ سفيان الثوري وغيره قالوا: إن إنساناً لو جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار. ولا ينكر أن يكون الله تعالى لطف بأبي حمزة الجاهل.
وما أمر الله به أن يوصل ظاهره العموم في كل ما أمر به في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن: المراد به صلة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإيمان به، وقال نحوه ابن جبير. وقال قتادة: الرحم. وقيل: صلة الإيمان بالعمل. وقيل: صلة قرابة الإسلام بإفشاء السلام، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، ومراعاة حق الجيران، والرفقاء، والأصحاب، والخدم. وقيل: نصرة المؤمنين. وأمر يتعدى إلى اثنين بحرف جر وهو به، والأول محذوف تقديره: ما أمرهم الله به. وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير أي: بوصله. ويخشون ربهم أي: وعيده كله. ويخافون سوء الحساب أي: استقصاءه فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا. وقيل: يخشون ربهم يعظمونه. وقيل: في قطع الرحم. وقيل: في جميع المعاصي. وقيل: فيما أمرهم بوصله. وصبروا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال، وميثاق التكليف. وجاءت الصلة هنا بلفظ الماضي، وفي الموصلين قبل بلفظ المضارع في قوله: الذين يوفون، والذين يصلون، وما عطف عليهما على سبيل التفنن في الفصاحة، لأنّ المبتدأ هنا في معنى اسم الشرط بالماضي كالمضارع في اسم الشرط، فكذلك فيما أشبهه، ولذلك قال النحويون: إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي، وأن يراد به الاستقبال. فمن المراد به المضي في الصلة {الذين قال لهم الناس} ومن المراد به الاستقبال {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} ويظهر أيضاً أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وتينك بالمضارع، أن تينك الصلتين قصد بهما الاستصحاب والالتباس دائماً، وهذه الصلة قصد بها تقدمها على تينك الصلتين، وما عطف عليهما، لأنّ حصول تلك الصلات إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها، ولذلك لم تأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي، إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها والله أعلم.
وانتصب ابتغاء قيل: على أنه مصدر في موضع الحال، والأولى أن يكون مفعولاً لأجله أي: إنّ صبرهم هو لابتغاء وجه الله خالصاً، لا لرجاء أن يقال: ما أصبره، ولا مخافة أن يعاب بالجزع، أو تشمت به الأعداء، كما قال:
وتجلدي للشامتين أريهم *** أني لريب الدهر لا أتضعضع
ولأنّ الجزع لا طائل تحته، أو يعلم أنه لا مرد لما فات ولا لما وقع. والظاهر في معنى الوجه هنا جهة الله أي: الجهة التي تقصد عنده تعالى بالحسنات لتقع عليها المثوبة، كما تقول: خرج زيد لوجه كذا. ونبه على هاتين الخصلتين: العبادة البدنية، والعبادة المالية، إذ هما عمود الدين، والصبر عليهما أعظم صبر لتكرر الصلوات، ولتعلق النفوس بحب تحصيل المال. ونبه على حالتي الإنفاق، فالسر أفضل حالات إنفاق التطوع كما جاء في «السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها» والعلانية أفضل حالات إنفاق الفروض، لأنّ الإظهار فيها أفضل. وقال الزمخشري: مما رزقناهم من الحلال، لأنّ الحرام لا يكون رزقاً، ولا يسند إلى الله انتهى. وهذا على طريق المعتزلة.
وللسلف هنا في الصبر أقوال متقاربة. قال ابن عباس: صبروا على أمر الله. وقال أبو عمران الجوني: صبروا على دينهم. وقال عطاء: صبروا على الرزايا والمصائب. وقال ابن زيد: صبروا على الطاعة وعن المعصية، ويدرؤون يدفعون. قال ابن زيد: الشر بالخير. وقال قتادة: ردوا عليهم معروفاً كقوله: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلام} وقال الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. وقال القتبي: إذا سفه عليهم حلموا، وقال ابن جبير: يدفعون المنكر بالمعروف. وقال ابن كيسان: إذا أذنبوا تابوا، وإذا هربوا أنابوا ليدفعوا عن أنفسهم بالتوبة معرّة الذنب، وهذا المعنى قول ابن عباس في رواية الضحاك عنه. وقيل: يدفعون بلا إله إلا الله شركهم. وقيل: بالسلام غوائل الناس. وقيل: من رأوا منه مكروهاً بالتي هي أحسن. وقيل: بالصالح من العمل السيئ، ويؤيده ما روي في الحديث أن معاذاً قال: أوصني يا رسول الله فقال: «إذا عملت سيئة فاعمل إلى جنبها حسنة تمحها السر بالسرّ والعلانية بالعلانية» وقيل العذاب: بالصدقة. وقيل: إذا هموا بالسيئة فكروا ورجعوا عنها واستغفروا. وهذه الأقوال كلها على سبيل المجاز. وبالجملة لا يكافئون الشر بالشر كما قال الشاعر:
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة *** ومن إساءة أهل السوء إحساناً
وهذا بخلاف خلق الجاهلية كما قال:
جريء متى يظلم يعاقب بظلمه *** سريعاً وإن لا يبد بالظلم يظلم
وروي أنّ هذه الآية نزلت في الأنصار، ثم هي عامة بعد ذلك في كل من اتصف بهذه الصفات.
وعقبي الدار: عاقبة الدنيا، وهي الجنة، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا وموضع أهلها. وجنات عدن بدل من عقبى الدار، ويحتمل أن يراد عقبى دار الآخرة لدار الدنيا في العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم، ويحتمل أن كون جنات خبر ابتداء محذوف. وقرأ الجمهور: جنات، والنخعي: جنة بالإفراد. وروي عن ابن كثير، وأبي عمرو: يدخلونها مبنياً للمفعول. وقرأ ابن أبي عبلة: ومن صلح بضم اللام، والجمهور بفتحها، وهو أفصح. وقرأ عيسى الثقفي: وذريتهم بالتوحيد، والجمهور بالجمع. وقرأ ابن يعمر: فنعم بفتح النون وكسر العين وهي الأصل، كما قال الراجز:
نعم الساعون في اليوم الشطر ***
وقرأ ابن وثاب: فنعم بفتح النون وسكون العين، وتخفيف فعل لغة تميميمة، والجمهور نعم بكسر النون وسكون العين، وهي أكثر استعمالاً. قال مجاهد وغيره: ومن صلح أي عمل صالحاً وآمن انتهى. وهذا يدل على أن مجرد النسب من الصالح لا ينفع، إنما تنفع الأعمال الصالحة. وقيل: يحتمل قوله: ومن صلح أي: لذلك بقدر الله تعالى وسابق علمه. قال ابن عباس: هذا الصلاح هو الإيمان بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه بشارة بنعمة اجتماعهم مع قراباتهم في الجنة. والظاهر أنّ ومن معطوف على الضمير في يدخلونها وقد فصل بينهما بالمفعول. وقيل: يجوز أن يكون مفعولاً معه أي: يدخلونها مع من صلح. ويشتمل قوله: من آبائهم، أبوي كل واحد والده ووالدته، وغلب الذكور على الإناث، فكأنه قيل: ومن صلح من آبائهم وأمهاتهم. والملائكة يدخلون عليهم من كل باب أي: بالتحف والهدايا من الله تعالى تكرمة لهم. قال أبو بكر الورّاق: هذه ثمانية أعمال تشير إلى ثمانية أبواب الجنة، من عملها دخلها من أي باب شاء. قال الأصم: نحو هذا قال: من كل باب باب الصلاة، وباب الزكاة، وباب الصبر. ولأبي عبد الله الرازي كلام عجيب في الملائكة ذكر: أن الملائكة طوائف منهم روحانيون، ومنهم كروبيون، فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الرياضات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة، فلكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي يحفظ لتلك الصفة مزيد اختصاص، فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السمائية ما يناسبها من الصفة المخصوصة، فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر، ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر، وهكذا القول في جميع المراتب انتهى. وهذا كلام فلسفي لا تفهمه العرب، ولا جاءت به الأنبياء، فهو كلام مطرح لا يلتفت إليه المسلمون. قال ابن عطية: وحكى الطبري رحمه الله في صفة دخول الملائكة أحاديث لم نطول بها لضعف أسانيدها انتهى.
وارتفع سلام على الابتداء، وعليكم الخبر، والجملة محكية بقول محذوف أي: يقولون سلام عليكم.
والظاهر أن قوله تعالى: سلام عليكم تحية الملائكة لهم، ويكون قوله تعالى: بما صبرتم، خبر مبتدأ محذوف أي: هذا الثواب بسبب صبركم في الدنيا على المشاق، أو تكون الباء بمعنى بدل أي: بدل صبركم أي: بدل ما احتملتم من مشاق الصبر، هذه الملاذ والنعم. وقيل: سلام جمع سلامة أي: إنما سلمكم الله تعالى من أهوال يوم القيامة بصبركم في الدنيا. وقال الزمخشري: ويجوز أن يتعلق بسلام أي: يسلم عليكم ويكرمكم بصبركم، والمخصوص بالمدح محذوف أي: فنعم عقبى الدار الجنة من جهنم، والدار: تحتمل الدنيا وتحتمل الآخرة. وقالت فرقة: المعنى أن عقبوا الجنة من جهنم. قال ابن عطية: وهذا التأويل مبني على حديث ورد وهو: «أن كل رجل في الجنة قد كان له مقعد معروف في النار، فصرفه الله تعالى عنه إلى النعيم فيعرض عليه ويقال له: هذا مكان مقعدك، فبدّلك الله منه الجنة بإيمانك وطاعتك وصبرك» انتهى. ولما كان الصبر هو الذي نشأ عنه تلك الطاعات السابقة، ذكرت الملائكة أن النعيم السرمدي إنما هو حاصل بسبب الصبر، ولم يأت التركيب بالإيفاء بالعهد، ولا بغير ذلك.


قال مقاتل نزلت: والذين ينقضون في أهل الكتاب. وقال ابن عباس: نزلت الله يبسط في مشركي مكة، ولما ذكر تعالى حال السعداء وما ترتب لهم من الأمور السنية الشريفة، ذكر حال الأشقياء وما ترتب لهم من الأمور المخزية. وتقدم تفسير الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل الآية في أوائل البقرة وترتب للسعداء هناك التصريح بعقبي الدار وهي الجنة، وإكرام الملائكة لهم بالسلام، وذلك غاية القرب والتأنيس. وهنا ترتب للأشقياء الإبعاد من رحمة الله. وسوء الدار أي: الدار السوء وهي النار، وسوء عاقبة الدار، وتكون دار الدنيا. ولما كان كثير من الأشقياء فتحت عليهم نعم الدنيا ولذاتها أخبر تعالى أنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، والكفر والإيمان لا تعلق لهما بالرزق. قد يقدر على المؤمن ليعظم أجره، ويبسط للكافر إملاء لازدياد آثامه. ويقدر مقابل يبسط، وهو التضييق من قوله: {ومن قدر عليه رزقه} وعليه يحمل {فظن أنْ لن نقدر عليه} وقول ذلك الذي أحرق وذري في البحر: «لئن قدر الله على» أي لئن ضيق. وقيل: يقدر يعطي بقدر الكفاية. وقرأ زيد بن علي: ويقدر بضم الدال، حيث وقع والضمير في فرحوا عائد على الذين ينقضون، وهو استئناف إخبار عن جهلهم بما أوتوا من بسطة الدنيا عليهم، وفرحهم فرح بطر وبسط لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة بفضل الله به، واستجهلهم بهذا الفرح إذ هو فرح بما يزول عن قريب وينقضي. ويبعد قول من ذهب إلى أنه معطوف على صلات. والذين ينقضون أي: يفسدون في الأرض، وفرحوا بالحياة الدنيا. وفي الكلام تقديم وتأخير. ومتاع: معناه ذاهب مضمحل يستمتع به قليلاً ثم يفنى. كما قال الشاعر:
تمتع يا مشعث إن شيئاً *** سبقت به الممات هو المتاع
وقال آخر:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى *** غير أن لا بقاء للإنسان
وقال آخر:
تمتع من الدنيا فإنك فان *** من النشوات والنساء الحسان
قال الزمخشري: خفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نذراً، يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك انتهى. وهذا معنى قول الحسن: أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الحياة الدنيا في جنب ما أعد الله لأوليائه في الآخرة نذر ليس يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك. وقال ابن عباس: زاد كزاد الرعي. وقال مجاهد: قليل ذاهب من متع النهار إذا ارتفع فلا بد له من زوال.


نزلت: ويقول الذين كفروا، في مشركي مكة، طلبوا مثل آيات الأنبياء. والملتمس ذلك هو عبد الله بن أبي أمية وأصحابه، رد تعالى على مقترحي الآيات من كفار قريش كسقوط السماء عليهم كسفاً. وقولهم: سير علينا الأخشبين، واجعل لنا البطاح محارث ومغترساً كالأردن، وأحي لنا مضينا وأسلافنا، ولم تجر عادة الله في الإتيان بالآيات المقترحة إلا إذا أراد هلاك مقترحها، فرد تعالى عليهم بأن نزول الآية لا يقتضي ضرورة إيمانكم وهداكم، لأنّ الأمر بيد الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف يطابق قولهم: لولا أنزل عليه آية من ربه، قل إن الله يضل من يشاء؟ (قلت): هو كلام يجري مجرى التعجب من قولهم، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبي قبله، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية، فإذا جحدوها ولم يعتدوا بها وجعلوه كأنه لم ينزل عليه قط كان موضع التعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم إن الله يضل من يشاء، فمن كان على صفتكم من التصميم وشدة التسليم في الكفر فلا سبيل إلى اهتدائكم وإن أنزلت كل آية، ويهدي إليه من كان على خلاف صفتكم. وقال أبو علي الجبائي: يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره، ويهدي إليه من أناب أي: إلى جنته من أناب أي: من تاب. والهدى تعلقه بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على إيمانه، وذلك يدل على أنه يضل عن الثواب بالعقاب، لا عن الدين بالكفر، على ما ذهب إليه من خالفنا انتهى. وهي على طريقة الاعتزال.
والضمير في إليه عائد على القرآن، أو على الرسول صلى الله عليه وسلم. والظاهر أنه عائد على الله تعالى على حذف مضاف أي: إلى دينه وشرعه. وأناب أقبل إلى الحق، وحقيقته دخل في توبة الخير. والذين آمنوا: بدل من أناب. واطمئنان القلوب سكونها بعد الاضطراب من خشيته. وذكر الله ذكر رحمته ومغفرته، أو ذكر دلائله على وحدانيته المزيلة لعلف الشبه. أو تطمئن بالقرآن، لأنه أعظم المعجزات تسكن به القلوب وتنتبه. ثم ذكر الحض على ذكر الله وأنه به تحصل الطمأنينة ترغيباً في الإيمان، والمعنى: أنه بذكره تعالى تطمئن القلوب لا بالآيات المقترحة، بل ربما كفر بعدها، فنزل العذاب كما سلف في بعض الأمم. وجوزوا في الذين أن يكون بدلاً من الذين، وبدلاً من القلوب على حذف مضاف أي: قلوب الذين، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين، وأن يكون مبتدأ خبره ما بعده.
وطوبى: فعل من الطيب، قلبت ياؤه واواً لضمة ما قبلها كما قلبت في موسر، واختلفوا في مدلولها: فقال أبو الحسن الهنائي: هي جمع طيبة قالوا في جمع كيسة كوسى، وصيفة صوفى.
وفعلى ليست من ألفاظ الجموع، فلعله يعني بها اسم جمع. وقال الجمهور: هي مفرد كبشرى وسقيا ورجعى وعقبى، واختلف القائلون بهذا في معناها. فقال الضحاك: المعنى غبطة لهم. وعنه أيضاً: أصبت خيراً. وقال عكرمة: نعمى لهم. وقال ابن عباس: فرح وقرة عين. وقال قتادة: حسنى لهم. وقال النخعي: خير لهم، وعنه أيضاً كرامة لهم. وعن سميط بن عجلان: دوام الخير. وهذه أقوال متقاربة، والمعنى العيش الطيب لهم. وعن ابن عباس، وابن جبير: طوبى اسم للجنة بالحبشية. وقيل: بلغة الهند. وقال أبو هريرة، وابن عباس أيضاً، ومعتب بن سمي، وعبيد بن عمير، ووهب بن منبه: هي شجرة في الجنة. وروي مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عتبة بن عبيد السلمي أنه قال، وقد سأله أعرابي: يا رسول الله أفي الجنة فاكهة؟ قال: «نعم فيها شجرة تدعى طوبى» وذكر الحديث. قال القرطبي: الصحيح أنها شجرة للحديث المرفوع حديث عتبة، وهو صحيح على ما ذكره السهيلي، وذكره أبو عمر في التمهيد والثعلبي. وطوبى: مبتدأ، وخبره لهم. فإن كانت علماً لشجرة في الجنة فلا كلام في جواز الابتداء، وإن كانت نكرة فمسوغ الابتداء بها ما ذهب إليه سيبويه من أنه ذهب بها مذهب الدعاء كقولهم: سلام عليك، إلا أنه التزم فيه الرفع على الابتداء، فلا تدخل عليه نواسخه هكذا قال: ابن مالك. ويرده أنه قرئ: وحسن مآب بالنصب، قرأه كذلك عيسى الثقفي، وخرج ذلك ثعلب على أنه معطوف على طوبى، وأنها في موضع نصب، وحسن مآب معطوف عليها. قال ثعلب: وطوبى على هذا مصدر كما قالوا: سقيا. وخرجه صاحب اللوامح على النداء قال: بتقدير يا طوبى لهم، ويا حسن مآب. فحسن معطوف على المنادى المضاف في هذه القراءة، فهذا نداء للتحنين والتشويق كما قال: يا أسفي على الفوت والندبة انتهى. ويعني بقوله: معطوف على المنادى المضاف، أنّ طوبى مضاف للضمير، واللام مقحمة كما أقحمت في قوله: يا بؤس للجهل ضراراً لأقوام، وقول الآخر: يا بؤس للحرب التي، ولذلك سقط التنوين من بؤس وكأنه قيل: يا طوباهم وحسن مآب أي: ما أطيبهم وأحسن مآبهم، كما تقول: يا طيبها ليلة أي: ما أطيبها ليلة. وقرأ بكرة الأعرابي طيبي بكسر الطاء، لتسلم الياء من القلب، وإن كان وزنها فعلى، كما كسروا في بيض لتسلم الياء، وإن كان وزنها فعلاً كحمر. وقال الزمخشري: أصبت خيراً وطيباً، ومحلها النصب أو الرفع كقولك: طيباً لك، وطيب لك، وسلاماً لك، وسلام لك، والقراءة في قوله: وحسن مآب بالرفع والنصب بذلك على محلها، واللام في لهم للبيان مثلها في سقيا لك. وقرئ: وحسن مآب بفتح النون، ورفع مآب. فحسن فعل ماض أصله وحسن نقلت ضمة سينه إلى الحاء، وهذا جائز في فعل إذا كان للمدح أو الذم كما قالوا: حسن ذا أدباً.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7